أدلة الاستقامة
لقد حث الله على الاستقامة، وأمر بها عباده، وكذلك حض عليها نبيه صلى الله عليه وسلم، من ذلك:
قوله تعالى: "اهدِنَا الصِّرَاطَ المُستَقِيمَ. صِرَاطَ الَّذِينَ أَنعَمتَ عَلَيهِمْ غَيرِ المَغضُوبِ عَلَيهِمْ وَلاَ الضَّالِّينَ"5.
وقوله: " إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلائِكَةُ أَلا تَخَافُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنتُمْ تُوعَدُونَ"6.
وقوله: "إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ. أُوْلَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ خَالِدِينَ فِيهَا جَزَاء بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ"7.
وقال مخاطباً الرسول وأمته: "فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَمَن تَابَ مَعَكَ وَلاَ تَطْغَوْاْ إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ"8.
وفي صحيح مسلم9 عن سفيان بن عبد الله الثقفي رضي الله عنه قال: قلتُ: يا رسول الله، قل لي في الإسلام قولاً لا أسأل عنه أحداً غيرك، قال: "قل آمنتُ بالله ثم استقم".
زاد الترمذي: قلت: يا رسل الله، ما أخوف ما تخاف عليَّ؟ فأخذ بلسان نفسه، وقال: "هذا".
?
ما الذي يعين على تحقيق الاستقامة؟
الاستقامة على أمر الله نعمة عظيمة، ودرجة رفيعة، ومنة عالية، فتحقيقها يحتاج إلى جد، واجتهاد، وصبر، واحتساب، ودعاء، وتضرع، وإخبات، وتوفيق، واحتراز.
أهم المعينات على تحقيق ذلك بعد توفيق الله عز وجل ما يأتي:
أولاً: الدعاء والتضرع، وسؤالها بجد وإخلاص، ولأهمية ذلك أمرنا بقراءة الفاتحة في كل ركعة، لما فيها من سؤال الصراط المستقيم المخالف لأصحاب الجحيم.
فالدعاء هو العبادة، وهو سلاح المستضعفين، وعدة الصالحين، ولا يعجز عنه إلا المخذولين، فالله سبحانه وتعالى مالك الهداية والاستقامة، فلا تُطلب إلا من مالكها.
ثانياً: الاشتغال بالعلم الشرعي، فالعلم قائد والعمل تبع له: "فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلا اللهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنبِكَ"10، فأمر بالعلم قبل العمل.
وينبغي أن يبدأ بصغار العلم قبل كباره، ويشرع في الأهم ثم المهم، وأن يتلقى من مشايخ أهل السنة الموثوق بدينهم وعقيدتهم وعلمهم، "إن هذا العلم دين، فانظروا ممن تأخذون دينكم"، كما قال مالك وغيره.
ثالثاً: الحرص على التمسك بالسنة، فهي سفينة النجاة، والحذر كل الحذر من البدع والاقتراب من المبتدعين، فإن ذلك هو الداء العظيم، والضلال المبين، بحكم رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو ردّ"، وفي رواية: "من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد"، كما جاء في الصحيح، فمن سن سنة سيئة فعليه وزرها ووزر من عمل بها إلى يوم القيامة.
رابعاً: مراقبة الله في السر والعلن.
خامساً: مجاهدة النفس، والهوى، والشيطان، وعدم الغفلة عن ذلك، ومحاسبتها في كل وقت وحين، وعلى الجليل والحقير.
سادساً: الإكثار من تلاوة القرآن، ومحاولة حفظه أوما تيسر منه، والمداومة على ورد ثابت.
سابعاً: الإكثار من ذكر الله عز وجل، والمداومة على أذكار الصباح والمساء، وأذكار وأدعية المناسبات المختلفات، فمن لم يوفق للغزو والجهاد، ولا لصيام الهواجر وقيام الليالي، فلا يفوتنه أن يعوض عن ذلك بلسانه.
فقد روي مرفوعاً وموقوفاً كما قال ابن رجب الحنبلي11 رحمه الله: "من فاته الليل أن يكابده، وبخل بماله أن ينفقه، وجبن عن عدوه أن يقاتله، فليكثر من "سبحان الله وبحمده"، فإنها أحب إلى الله من جبل ذهب أوفضة ينفقه في سبيل الله عز جل".
ويغني عنه ما في الصحيح: "لا يزال لسانك رطباً من ذكر الله".
ثامناً: الحرص على سلامة القلب، والحذر من أمراض القلب المعنوية، كالحسد، والرياء، والنفاق، والشك، والحرص، والطمع، والعُجْب، والكِبْر، وطول الأمل، وحب الدنيا، فإنها أخطر من أمراضه الحسية، وهي سبب لكل رزية.
تاسعاً: التقلب بين الخوف والرجاء، في حال الصحة والشباب يغلب جانب الخوف، وعند المرض ونزول البلاء وعند الاحتضار يغلب جانب الرجاء.
عاشراً: مزاحمة العلماء بالركب، والقرب منهم، والحرص على الاستفادة منهم، واقتباس الأدب والسلوك قبل العلم والمعرفة.
أحد عشر: دراسة السيرة النبوية، وتراجم الأصحاب والعلماء، يعين على تزكية النفوس والترقي بها، "فإن التشبه بالرجال فلاح".
الثاني عشر: الحرص على معاشرة الأخيار، فالمرء على دين خليله، والطيورعلى أشكالها تقع، "الأَخِلاء يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلا الْمُتَّقِينَ"12.
الثالث عشر: الإكثار من ذكر الموت وتوقعه في كل وقت وحين، فهو أقرب إلى أحدنا من شراك نعله.
الرابع عشر: القناعة بما قسم الله، والرضا بذلك، والنظر إلى من هو دونك وليس إلى من هو أرفع منك في شأن الدنيا، أما في شأن الدين: "وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ"13.
الخامس عشر: الخوف والحذر من سوء الخاتمة.
السادس عشر: سؤال الله والاستعاذة به من الفتن، ما ظهر منها وما بطن.
السابع عشر: الاستفادة من الوقت، والحرص عليه، فما العمر إلا أيام، وساعات، وثوان.
الثامن عشر: تجديد التوبة والإنابة، مع تحقيق شروطها والحرص على أن تكون توبة نصوحاً.
?
ثمار الاستقامة ونتائجها
ما أكثر ثمار الاستقامة، وما أجل نتائجها، وما أفضل عقباها، نسوق منها ما يلي، إذ العبرة بالخواتيم:
1. السعادة في الدنيا.
فلستُ أرى السعادة جمع مال ولكن التقي هو السعيــد
2. نزول ملائكة الرحمة على المستقيمين عند الموت مطمئنة ومثبتة لهم، ومبشرة إياهم: "أَلا تَخَافُوا وَلا تَحْزَنُوا"14، أي لا تخافوا الموت، ولا تحزنوا على أولادكم.
3. وكذلك تبشرهم في القبر بالقول الثابت.
4. وعند القيام للبعث والنشور.
5. دخل الجنة دار الكرامة والمقامة: "لاَ يَمَسُّهُمْ فِيهَا نَصَبٌ وَمَا هُم مِّنْهَا بِمُخْرَجِينَ"15.
اللهم ارزقنا الاستقامة، وأحلنا دار الكرامة، وأجرنا من الذل، والخزي، والمهانة.
اللهم أحينا مسلمين، وتوفنا مؤمنين، واحشرنا في زمرة الرسل، والأنبياء، والشهداء، والصالحين، اللهم إنا نسألك عيش السعداء، وموت الشهداء، والنصر على الأعداء، والعصمة من الفتن العمياء، وصلى الله وسلم على إمام المتقين، وسيد الغر المحجلين، الداعي إلى خيري الدنيا والدين، وعلى آله، وصحبه، والتابعين.